الفاجعة العمياء !
قحطـــان فؤاد الخطيب / العراق
كان قميئا لا يلفت النظر ، داكن السحنة ، طويل اللحية ، رث الثياب ، .... يغطي رأسه شعر اشتعل شيبا ، يحمل بين ثناياه رواسب الماضي وكأنها تحكي ، بزهو وانشراح ، عن التجارب والخبرات والذكريات السعيدة المتراكمة عبر العقود التي لم تعد تفارقه البتة.
بخلاف شريكـة حياتـه ، إذ كانت حسناء ، فارعة الطول ، رشيقة القوام ، بضة ، تدير أعناق الآخرين ما أن يبصروها. أنجبت له سبعة بنين وثلاث بنات ينحازون بجيناتهم إلى أمهم أكثر من أبيهم طولا ولون بشرة. كانت ربة منزل من الطراز الأول ، تجيد برمجة وقتها بين تحقيق متطلبات زوجها ورعاية أولادها من جهة والاهتمام بشؤون المنزل من جهة أخرى ، لدرجة تخالها خريجة جامعة مع أنها لا تقرأ ولا تكتب! لقد حباها الله ملكة الاستحواذ على مقدرات زوجها بسلاسة متناهية ، مانحة إياه كل ما أوتيت من مشاعر الرقة والحنان ودفء الأنوثة ، مزيلة الفوارق الفسيولوجية الجسيمة بينهما ، هذا ، ناهيك عن أنه كان يبادلها ذات المشاعر والأحاسيس والانطباعات ، ناعتا إياها بالأيقونة التي لا تتكرر. ولمثاليتها ، كانت تتغنى مع نفسها ، بسذاجة أو قناعة ، منذ اللحظة الأولى لزواجهما بالعبارة الخالدة:
"لكي أكوّن بيتا سعيدا ، يجب أن أرضى بقسمتي على أي حال !"
على أن الزوج في صباه ، اعتمد في بناء مصادر رزقه على تربية أسراب الديك الرومي والإوز والدجاج ذي البيض الوفير واللحم الطازج ، إضافة إلى أسماك الزينة والببغاوات الاسترالية والأسيوية. هذا ما كان يتوق إليه زبائنه على الدوام....... كان يطعمها ويسقيها ويتفقدها بنفسه ، بكل غبطة وانشراح ، وفق توقيت لا يحيد عن الضبط ، وكأنها أفراد أسرته. في وقت كانت زوجته وبناته الثلاث ينهمكن في إعداد خبز التنور المميز بغية بيعه للجيران والمطاعم المتواضعة في البلدة النائية هناك ، فيما كان أولاده السبعة يرعون الماشية منذ ساعات الفجر الأولى وحتى الغسق دون تذمر أو استياء.
لقد كانت أسرة متماسكة ومنسجمة ومتعاونة ومتحابة ومنتجة ، يحترم بعضهم بعضا . أما عميد الأسرة ، فكانت كلمته مسموعة ومطاعة رغم عناده وصرامته في أغلب الأمور . إنهم عاشوا في بحبوحة من أمرهم ، بعيدين عن الفاقة والعوز والحرمان ، فكل شيء متوفر بيسر هناك رغم أنهم ليسوا من الطبقة الثرية ! ترتسم علامات الغبطة والأمل على وجوههم المتفائلة ، فهم لا يجيدون شيئا سوى التعاون والمحبة والعمل المثمر. لقد تربوا على نمط من السلوك البناء منذ نعومة أظفارهم ، يحدوهم الأمل بعش زوجية موفق لنقل التجربة الأسرية الناجعة بغية تكوين مجتمع نموذجي من الطراز الأول.
ومضت السنون وكأنها ثوان والكل ينعم بالهدوء والاستقرار. وأزفت الساعة لترجمة أحلامهم وطموحاتهم إلى واقع لا يفتقر إلى أي منغص : لقد بلغت أعمارهم جميعا السن القانوني لتكوين بيت الزوجية والانشطار عن الأسرة التي بدأت تتمدد رويدا رويا ...... هذا يريد طلب يد تلك الفتاة ، وتلك مفتونة بالاقتران بذلك الشاب. وثالث شرع يفكر بمشروع له بداية وليس له نهاية ، فيما الرابع أصر أن يكون نفسه راعيا لقطيع أغنام ، إذ يدر عليه موارد مالية وفيرة ، وهكذا دواليك . إذن ، الاستراتجيات وضعت بمباركة الوالدين ، وبتوفر المصدر المالي لانجاز المهمة بيسر. فهم ، لا مندوحـة ، بانتظـار سـاعة الصفر لتنفيذ مشاريعهم بلهفة واندفاع ، تحسبهم أنجزوا مقرراتهم الأكاديمية ، بعد كفاح مضن من العمل المثمر البناء ، وكأنهم يتأبطون شهاداتهم العليا بامتياز!
في خضم هذه الفرحة العارمة ، انزوت الأم فجأة في زاوية البيت بشكل لا إرادي في وقت كانت تنوي التوجه نحو عملها الروتيني ، خبز التنور....مما حدا بابنتها الكبرى ، وقد ساورها بعض الإحباط ، لاستطلاع
رأيها في كنه السبب ، فإذا بها تقول بحسرة ويأس:
" ترّف عيني اليسرى ، وأخشى أن يكون ثمة مصاب جلل متجه نحونا !"
"تعوذي من الشيطان " أجابت ابنتها الكبرى ، "لا تفسدي علينا متعتنا."
انصرفت الأم وبناتها الثلاث إلى مقر عملهن ، التنور ، والقلق الدفين يمزقهن ، وكأن عينا حسودة فعلت فعلتها بهن !
لقد حدث فعلا ما ليس في الحسبان . إذ مزق صاروخ أعمى أجساد الأغنام ورعاتها السبعة في الحال ، فيما أحال أجساد الأم وبناتها الثلاث إلى أشلاء من اللحم الآدمي المتناثر هنا وهناك ، وهن بجوار التنور ، يبغين الرزق الحلال !!!!
"واعجبي ،" سأل المسن المفجوع "أليست تلك هي لغة الحرب العقيمة التي تأتي على الأخضر واليابس دون رحمة أو إنصاف وبشكل غير متوقع ؟!"
إذن ، اغتيلت كل الأحلام الوردية بجرة قلم ، وتبخرت الأسرة عن بكرة أبيها بلمح البصر ، ولم ينجو منها سوى الرجل الشارد المنكوب ، الذي شاء القدر أن يبقيه على قيد الحياة بمعجزة خارقة ، شاهدا على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، وطيشه ووحشيته ودمه الملوث البارد. فانطوى ، مكرها ، على نفسه بشكل قسري وأليم ، وطفق يذرف الدمع الساخن على وجنتيه من هول الفاجعة ..... ولم يعد يعرف طعم النوم لقسوة الكوابيس التي كان يراها في المنام. وكان يتمتم مع نفسه ليل نهار : "لماذا لم يفترسني الصاروخ وأنا على مرمى حجز من التنور !؟"
إذن ، فقد الرجـل كامل أسرته ، كما خسر تحويشة عمره من مال ومقتنيات ، وتحولت البلدة ألآمنة المطمئنة الهادئة الوديعة بساكنيها ، الذين عاشوا بين ظهرانيها ، مهووسين بالإيثار والتفاني والمحبة والتعاون ، وكأنهم منتمون لفخذ واحد وقبيلة واحدة ، نعم.... تحولت البلدة إلى بيوت أشباح ، والشاهد عليها البائس المسكين !
على أن كل من احتك به من الجيران في بلدته المنكوبة خرج بمسلمة مفادها أن ثمة ما يميزه عن السكان الآخرين: فبيته ، لا شك ، أضحى أشبه بعرين أسد هرم لا يحسد عليه.....، فيما يلف الغموض أسلوب حياته وهو مقعد في أواخر خريف عمره ، بلا عمل ولا مورد مالي......غريب الأطوار ، يقبع داخل أربعة جدران ، بلا جليس ولا أنيس ......هنا يثار الفضول ، وتتراقص حوله علامات استفهام عريضة: ترى ، ملابسه من يغسلها ؟ شؤونه من يرعاها ؟ يعيش ، وهو الطاعن بالسن ، وحيدا ، منغلقا ، مرتابا ، شكوكا ، دائم الشرود.... لا يزور أحدا ولا يسمح لأحد بزيارته ، وحسبه التعبد بصعوبة وقراءة القرآن واجترار الذكريات ........ إنه قاب قوسين أو أدنى من الاحتضار بسبب الصدمة المروعة التي يخفق أي عقار طبي ، مهما بلغ من التطور، في نسيانه لها.
وأخيرا وصلت مفرزة تقييم الأضرار. فإذا بها تدخل البيت المدمر لتفاجأ بمن في داخله :عجوز مصاب بمرض عضال أقعده هناك تمزقا ولوعة وألما وحسرة على فراق الأحبة .... يولول ويئن متسائلا حول هذا اللغز المحير الذي يفرض نفسه بإصرار وكأن لسان حاله كان يقول:
"خطيئة من استشهاد تسعة أفراد من أسرة واحدة بلمح البصر !؟ أهذه هي سمات الألفية الثالثة التي بشرنا بها المتمدنون! ؟ تبا لها ولنزعتها الإجرامية الجامحة . إنا لله وإنا إليه راجعون !!!"
قصة قصيرة